الفصل الثاني عشر
("يتجاوز البعد الإنسانى بين البشر روابط اللغة والدين والعرق؛ يقفز فوق هذا كله، يربطنا بشريط الإنسانية الشفاف فنتحدث لغة صمت أرقى وأبلغ من كل اللغات؛ لغة المشاعر، نتواصل بها صمتًا وصوتًا فى صعيد المحبة")
سانتياجو ، خريف 2017
يا لهذا الناشر المجنون، أشعر أنه معي كظلي، تتوالي رسائله كزخات مطر مصحوبة بالرعد والبرق، وقلق يتزايد كلما اقتربنا من موعد معرض الكتاب، ما إن انتهيت من الفصول العشر الأولي حتى أرسلتها إليه وعكفت على كتابة الأجزاء الباقية، أحاول اقتناص وقت يسمح لى بمزيد من التركيز في الكتابة، لكن اعباء العمل، وخاصة في هذه الفترة الانتقالية تبدو كثيرة متشعبة.
أقضى نهارى وجزءًا من ليلى في العمل، مكتفيا برحلتى المكوكية الرتيبة من بيتى إلى المكتب والعكس، لم تزد جولاتى بالمدينة عن المركز التجارى للتسوق؛ إما مع إليخاندرو أو فرناندو، الذى لا يكف عن الحديث متى استويت إلى جواره بالسيارة مع تحريك يديه وانبعاج وانبساط ملامح وجهه بما يتناسب مع حديثه أملاً في فهم ما يقول، ثم يصمت منتظرًا ردى عليه، مراوحًا عينيه بيني وبين الطريق فلا يجد إلا تمثالاً صامتًا تعلو وجهه شبه ابتسامة، فلا يلبث إلا ويعاود حديثه وكأنه يناقشني فيما تخيل أنني قلته، وهكذا سلم كلٍ منا بعادة صاحبه.
قبلت عادته في أول الأمر على مضض ثم كخلفية صوتية -لاحيلة لى فيها- تتغير إيقاعاتها مع الوقت، اللهم إلا إذا أجريت بعض المكالمات الهاتفية، فيلتزم الصمت أحيانًا ويخفض صوته أحيانًا أخرى.
طيب ودود صبور؛ لا تغادره ابتسامته سواء نزلت له في الموعد مباشرة أو تأخرت عليه بعض الوقت، ويبتهج متى طلبت منه أمرًا إضافيًا يخرج عن حدود الروتين اليومى يخرج سيارته لا تحيد عن مسارها الثابت والمعلوم معى؛ أشبه بمسار قطار محصور بين المكتب والبيت، أطلب منه المرور على بعض الأماكن لقضاء أمر أو أرسله برسالة إلى أحد زملاء العمل فينجزها رافضًا تقاضى أجر إضافي، أُلح عليه فيؤكد أنه ذهب أثناء توصيله أحد الزبائن، ومن ثم فقد تقاضى أجره ضمنيًا، فأعوضه من حين لآخر بهدية يتردد في قبولها، فتوطدت علاقتنا يومًا بعد يوم، لم تعد علاقة سائق براكب، بل تخطتها بكثير رغم عجز اللغة.
يتجاوز البعد الإنسانى بين البشر روابط اللغة والدين والعرق؛ يقفز فوق هذا كله، يربطنا بشريط الإنسانية الشفاف فنتحدث لغة صمت أرقى وأبلغ من كل اللغات المنطوقة؛ لغة المشاعر، نتواصل بها صمتًا وصوتًا في صعيد المحبة، لا يحتاج فرناندو الحديث معى بالإنجليزية ولا أنا في حاجة لأتحدث معه بالإسبانية التى لم أعرف منها سوى نَذرًا يسيرًا من كلمات الترحيب والوداع ومما تستوجبه المجاملات، عدا ذلك تتشابه في أذنى إيقاعاتها.
فى أيام العطلات يمر أليخاندرو على في الظهيرة؛ نحتسى القهوة مع بعض الشطائر، أحيانا نخرج لقضاء بعض الأعمال معًا، غالبا لى وأحيانًا له، أو نمكث في المنزل نتبادل الحديث في أمور تختلف من مرة لأخرى، اجتماعى بطبيعته ومحب للحديث وإن أعاقته لغته الإنجليزية قليلاً، مع الوقت صرت أفهم ما يرمى إليه فأُعينه ببعض الكلمات، فإذا ما اعتذر لفقر لغته أخبرته أنه أغنى منى لغةً مقارنة بجهلى التام بالإسبانية، فيضحك. كان نافذتى الصغيرة التى أُطل منها على مجتمع أقيم في قلبه ولا أدرى عنه شيئا، لا أعرف مناخاته السياسية ولا عادات أهله، حالة مختلفة تمام الاختلاف عن حياتى السابقة في بيروت؛ معايشة تامة مع أهلها وأحداثها، أما هنا فشبه عُزلة، باستثناء أليخاندرو وبعض من ترجمات الأديبين التشيلين؛ الروائية إيزابيلا الليندى والشاعر بابلوا نيرودا، حتى الأجازات الرسمية، خلاف السبت والأحد، لا أعرفها إلا إذا نبهني إليها أحد الزملاء.
كان يوم ثلاثاء، عدت ،كعادتي، من العمل مع فرناندو وعندما وصلت المنزل صار يحدثنى بإسبانيته مع إشارات بيديه، ومع عدم فهمى كرر كلماته وإشارته عدة مرات، ولم تختلف النتيجة لدى، ففى كل الأحوال تساوت المخارج والحروف، اخرجت هاتفى واتصلت على أليخاندرو ليترجم لى فلم يرد، حركت يداى مستسلما ماطا شفتاى وكأنى أقول له (ما باليد حيلة)، فعقب قائلا ما يعنى أنه سيمر على في موعدنا صباحا، وإن بدا مترددًا من شئ لم أفهمه، شكرته ومضيت إلى بيتى وانهمكت في إعداد الطعام والرد على بعض الرسائل ومراجعة الرواية.
رن هاتفى فإذا أليخاندرو على الجانب الآخر يعتذر عن عدم انتباهه لمكالمتى؛ أخبرته بما كان بينى وبين فرناندو فضحك واعتذر واقترح الاتصال به لمعرفة ما يريد، فشكرته وطلبت ألا يفعل، فالوقت تأخر وأنه، فرناندو، لو كانت هناك ضرورة لاتصل عليه، ثم أغلقت هاتفى وعاودت الكتابة، وفى الصباح ركبنا السيارة معًا، كانت الطرق هادئة على غير عادتها لا يفصلنى عن نهر مابوتشو شيء، ولم نَسِر بالبطء المعتاد لعبور كوبرى لوكورو، ثم أسفر شارع داج همرسكيولد عن فضاء فسيح لم أعتده من قبل، كعادته خلال الرحلة لم يكف فرناندو عن أحاديثه إلا أنها، في ذلك اليوم، بدت نسخة مما كان يتحدث ويشير به مساء أمس أمام بيتى، حتى استقامة كفه اليمني إلى جوار رأسه، كمن يؤدى تحية عسكرية، وأنا أمط شفتي حينًا وأرفع حاجباي حينًا آخر.
نزلت أمام مقر عملي تنتابنى ريبة؛ حييت فرناندو وطلبت منه أن يمر على في موعدنا المعتاد ما لم اتصل به، ما إن صرت أمام البوابة حتى سألنى الحارس عن سبب مجيئى، فضحكت ووضعت حقيبتى على جهاز الأشعة الرابض في مدخل البوابة، فأخبرنى أن اليوم عطلة رسمية، يوم الاستقلال، وأن لا أحد في المبنى سوى رجال الأمن، فصعقت، حملت حقيبتى ثانية ورجعت إلى الشارع والهاتف في يدى وفرناندو لا يرد؛ كان لا يزال واقفا بسيارته، حينها فهمت معنى كلماته وإشاراته، فضحكنا معا وعدت إلى بيتى، بعدها أرسل لى أليخاندرو قائمة بالعطلات الرسمية للعام كله فدونتها في مفكرتي وإن لم يمنع هذا فرناندو من تكرار كلماته وإشاراته ذاتها أثناء عودتنا من العمل في الأيام السابقة للعطلات الرسمية، فأضحك وأرد عليه (مانيانا إس فاكَسيونس) أى غدًا أجازة، فيضحك ويعقب (بيونس نوتشيس)، أى تصبح على خير.
أما أليخاندرو فقد توطدت علاقتنا مع مرور الوقت، كان صريحًا ومباشرًا، لا يتردد في إخبارى ببعض أسراره وكأنني صديق قديم، حكي لى عن جده لأبيه، العربي الأصل، هاجر من فلسطين ضمن من هاجروا إلى أمريكا اللاتينية واستقروا بها، أقام هناك وعمل في التجارة وحقق أرباحا كبيرة اشترى بها أراض في أماكن مختلفة بنى عليها فيلات ومنازل؛ باع بعضها وأجر البعض الآخر، وكأنه يعوض ما فقده من أرض في بلده، بوفاته آل جزء منها إلى ابنه؛ حنا أو هانا بالإسبانية، والد أليخاندرو؛ فأمنت له دخلا جيدا إلى جانب راتبه من وظيفته إلى أن توفى فتوزعت الثروة على ابناءه، كان نصيب أليخاندروا منها ثلاثة منازل، اثنان في سانتياجو؛ منهما ذلك الذى أقطن فيه، والثالث على مسافة خمسمائة كيلومتر، في لاسيرينا، وهكذا صار أليخاندرو هانا خليل سوربرينديو، أو آلكسندر حنا خليل الفكهانى باللغة العربية، صاحب أملاك.
ما أن آل إليه ميراث أبيه حتى استقال من وظيفته مكتفيا بمعاش تقاعدي بسيط إلى جانب ما تدره عليه هذه العقارات من إيرادات شهرية، فاشتعلت الحرب بينه وبين زوجته سانتانا؛ إثر معارضتها قراره بالتقاعد الطوعى، استخدمت فيها كل وسائلها وأدواتها؛ بداية من اللين إلى مغادرة المنزل هى وطفلتيهما، لكنه لم يأبه بتهديداتها، فاضطرت للعودة منكسة الرأس معترفة بالهزيمة راضخة للأمر الواقع وإن لم تنس أبدًا ثأرها؛ يختلفان في أمر، فتصب عليه جام غضبها وتذكره أنها لا تستبعد أى فعل أو قول من رجل قرر التحول لعاطل بمحض إرادته تاركًا وظيفة كان الأولى به أن يحافظ عليها ويجتهد فيها ليحقق مكانة اجتماعية، ثم تمضى تذكره بأصدقائه الذين ترقوا في العمل فيتجاهلها غير مكترث بما تقول.
ما إن ترى سانتانا حتى تعرف أصلها اللاتيني؛ بشرة فاتحة السمرة ناعمة، ممتلئة الجسم، ينسدل شعرها الأسود الناعم الطويل على كتفين عريضين متينين، تقضى وقتها في رعاية البيت وسكانه من قبل شروق الشمس وحتى موعد نومها، توقظ البنتين وتجهزهما وتحضر لهما إفطارهما وتوصلهما بالسيارة إلى المدرسة، ثم تعرج في طريق عودتها إلى السوق فتشترى لوازمها واحتياجات البيت، فإذا ما وصلت بيتها عمدت إلى المطبخ ترص فيه ما أحضرته معها وتتناول فطورها مع كوب قهوة تبدأ بعده في إعداد وجبة الغداء أو الاتصال بالكهربائى أو السباك، بحسب ما يحتاجه المنزل من إصلاحات، وما إن تقترب الساعة من الثانية عشر حتى تنطلق بالسيارة مرة أخرى لإحضار البنتين وبدء جولة أخرى تفتتحها بإعداد السفرة للغداء، ثم غسل أطباق المائدة ومتابعة مذاكرة البنتين، كل هذا وأليخاندرو إما نائم في الحجرة المجاورة أو خرج لمقابلة بعض أصدقاءه، وكأنه نزيل بأحد الفنادق أو ضيف اضطرته الأسباب للإقامة معهم لبعض الوقت، ثم لا يلبث أن يغادر مودعًا إلا من بعض ذكريات خفيفة.
اعتاد الاستيقاظ متأخرا، يقضى ليله ساهرًا مع أصدقائه ويعود بعد منتصف الليل، فيما تكون هى قد أوت إلى فراشها مهدودة مكدودة تأمل الاستيقاظ مبكرًا لترعى شئون البنتين، عبثا حاولت تغيير طباعه التى استجدت بعد تسوية معاشه، سهر وغياب لبضعة أيام عن المنزل كل شهر بحجة سفره لمتابعة شئون بيته المستأجر في لا سيرينا بخلاف إسقاطه كافة مسئوليات البيت من أجندته، إلا من توفير المال اللازم للبيت وسكانه.
لا يستيقظ قبل الحادية عشر، يأخذ حمامه ثم يعد قهوته بنفسه، وإلا فإن القيامة ستقوم إن طلبها من سانتانا؛ يرتفع صوتها عاليا راصةً له قائمة أعمالها منذ استيقظت بينما هو نائم يناكف الملائكة، على حد تعبيرها، ثم تختتم خطبتها بقرار عدم إعداد القهوة، ثم تردف ساخرة،
- وليكن هذا عملك اليوم
فيرد عليها بهدوء مصطنع غامزًا بعينه،
- استطيع فعل اشياء أخرى ؟!
فتجيبه ساخرة
- حقًا، وهل هناك من يشهد لك غيرى !!
- أتودين ان اثبت لك هذا الآن ؟
- طبعا، فأنت لا تدرى أن ابنتيك في المدرسة وأننى اتولى احضارهما
- أعرف، لكن هناك وقت !!
فترد عليه بحنق متناولة حقيبة يدها ومفاتيح السيارة بعصبية،
- تماسك حتى أعود !!
وتمضى في طريقها تبرطم بكلمات غير مفهومة، فإذا ما سمع موتور السيارة يدور وصوتها يبتعد أطلق قهقة عالية وراح يُكمل إعداد قهوته مدندنا بمقاطع من أغان محببة إليه، وهكذا تمضى حياتهما في بحر هائج من التوتر، يتقن هدوءه وتماسكه، وتفلت هى عيار عصبيتها دون حساب.
لم يكتسب من صفات المثابرة والاجتهاد والصبر المتوافرة في جينات جده وأبيه شيئا، اقتصر ما ورثه عنهما على حب النساء بطريقة مخالفة لمنهجيهما؛ شاركا زوجتيهما في كل صغيرة وكبيرة وأحاطاهما بالحب والحنان، فالسبب في فتح أبواب التجارة الكبيرة أمام جده، والعائلة بأكملها، كانت مشورة زوجته التى كانت تفكر معه وتقف إلى جواره وتساعده على تجاوز الأزمات، كذلك كانت والدة أليخاندرو مع والده، أما هو فقد نحى منحى مختلف.
أقام على الضفة الأخرى لسعى جده وأبيه وكدهما الدؤوب في الحياة؛ بدء الجد من لا شيء وكون هذه الثروة الكبيرة، وساعده ابنه في الحفاظ عليها وتنميتها، أما ذلك الحفيد أليخاندرو، فهو الكسول الزاهد في تحمل أية مسئولية، حتى ابنتيه، ترك أمرهما لزوجته، ومن ثم عرف أن راحته مرتبطة باستمرار العلاقة بينه وبين زوجته؛ لذا حافظ عليها بأقل جهد، شعرة رفيعة، إن جذبتها أرخاها، عدا ذلك يتركها كما هى؛ لم يجذبها ولو لمرة واحدة، موقنا أنها إن رحلت وتركت له البنتين فقد كل أسباب الراحة، ولم لا وسهره خارج المنزل ليس بريئًا كله ولا دائما مع أصدقاءه، وإنما يكون لأغراض أخرى وكذلك غيابه الشهرى لبضعة أيام، غياب يطلق فيه لشهواته العنان ويغترف من بحار الحب دون حساب وكأنه مقبل على صيام.
قبل قدومى إلى سانتياجو لم يكن لديه ما يخرج من أجله نهارًا، اللهم إلا إذا استدعى الأمر المرور على مستأجرى بيتيه لتحصيل الإيجار بنفسه، بينما يحول مستأجر بيته في لا سيرينا قيمة الإيجار عبر حساب بنكى، لذا لم يكن هناك مبرر حقيقى لسفره شهريا بضعة أيام لتفقد البيت وتحصيل الإيجار، قدر ما كان ذلك غطاء لتصرفات لا يريد لأحد أن يعلم بها، وخاصة زوجته.
ذهبنا معًا أحد أيام الآحاد للتسوق، وبينما يقود سيارته سألنى بانجليزيته الركيكة غامزًا بعينه ،
- ألا ترغب في رحلة تغير بها هذا النمط الجاف في حياتك ؟
ضحكت وأجبت:
- أى جفاف تقصد ؟
- ألا تدرى بنفسك ؟، تعيش وحيدًا كراهب معتزلاً الدنيا، حتى سانتياجو لم تزرها بعد، حياة مملة مكررة على مدار الأيام، من المكتب إلى البيت، والعكس، تزيدها يوم السبت أو الأحد بالمرور على أحد مراكز التسوق، يا لها من حياة كئيبة ؟!
- لا تقلق !!
- من تظن نفسك
- .....
- هل تعتقد أنك قديس أو نبى ؟
- بالتأكيد لا
- إذن اترك لى نفسك
- ماذا تقصد
- سوف أسافر نهاية الأسبوع في رحلة إلى جبال الأنديز وسوف اقضى فيها يومين
- مع سانتانا ؟
- ألم أقل لك من قبل انك ساذج
- .....
- هل تعرف، قبل أن اتعرف عليك كنت اتساءل لماذا تعجز الأمم المتحدة عن انهاء النزاعات الدولية ومساعدة الفقراء في كل مكان، لماذا فشلت في حل مشكلة فلسطين وإعادة جدى غسان إلى قريته، الآن عرفت أنهم يختارون موظفين يعيشون في الخيال أكثر من الحقيقة
ضحكت وعقبت،
- لا تحكم على الجميع من خلالى
- انت مثال جيد لعجز هذه المؤسسة
- كل هذا لسؤالى عمن يصحبك، لم أعرف أنك تهوى السفر وحيدا
- اقسم لك أننى صادق في ظنونى تجاه منظمتك هذه، من قال اننى اسافر وحدى
- إذن مع من ؟
قال غامزًا بعينه اليمنى،
- سانتانا لا تصلح سوى للبيت، للسفر رفقة خاصة
- ماذا تقصد
أجاب بصوت مسرحى ممطوط،
- روزالينا
- من ؟
- صديقتى
- وزوجتك ؟
- ترعى البنتين على أكمل وجه !!
- تتركها ترعى البنتين وتسافر مع صديقتك !!
- هى السبب !
- كيف ؟
- نسيت أن في البيت زوجا يحتاج رعاية !!
- .....
- ها ؟ .. ماذا قلت ؟ .. أتصحبنى ؟ .. لروزالينا صديقة غير مرتبطة وترغب في صحبتنا
قلت ساخرًا،
- إذن اهتم بهما
فتحدث بجدية،
- ما رأيك أن تسافر معنا ؟
- .....
قال مُضيقًا عينيه،
- سلفادورا فتاة جميلة، أنصحك أن تجرب
- لن أجرب ولن آتى معكم
- لماذا، إنها فرصة ؟
- لا
- أرجوك
- لدى ارتباطات
عقب ساخرًا،
- أخرج من صومعتك أيها القديس
- لست قديسًا، إننى مذنب يحتاج للتطهر
- بل ساذج !!
- اتمنى يا صديقى !!
- .....
وشردت بذهني بعيدًا. نعم، اتمنى يا صديقى أن أكون ساذجًا وألا يكون ما حدث خطيئة احملها على ظهرى أينما رحلت وحللت، تركت بيروت هربًا منها وها هى تطاردنى الآن في سانتياجو، إيه يا سانتياجو المدينة والبَحَار العجوز؛ بعد أكثر من ثمانين يومًا من عناد البحر اصطاد سمكة الماندرين العملاقة التى طالما حلم بها، يومان وهو يسايسها، استدعى كل خبرته في الصيد، وعندما تمكن منها اكتشف أنها أكبر من قابه الصغير وأضخم من إمكانياته المتواضعة؛ ما أصعب أن تحلم بالفرص الكبيرة وعندما تجدها بين يديك تقتلك قلة حيلتك؛ دافع عن صيده الثمين ضد أسماك القرش المفترسة دون جدوى، نُهشت السمكة وبقى رأسها وذيلها المفرود كمروحة عملاقة؛ شاهدين على خيبته، وعند الشاطئ حمل مجدافيه المحطمين في أسي ومضى صوب منزله بخطى ثقيلة، وهناك تمدد على فراشه مهزومًا مكلومًا حتى غلبه النوم.
ها أنذا يا سانتياجو المدينة بقايا إنسان أهلكته الخطيئة فترك أرضها بعد ما أضنته عذاباتها، ألقيت روحى المعذبة وجسدي المنهك في أحضانك أملاً في غد تملؤه البراءة والطهر، أُبعث فيه من جديد، لا تحرمينى هذه الفرصة يا سانتياجو، لا تخذلينى ولا تتخلى عن أحلامى، لم يعد لدى أحلام أخرى، ألقيت بعواطفى في آتون النفايات وجلست إلى جوارها احلم بالغد فإذا الوحدة تفتك بى، مسجونا بين عملى ومنزلى، صَمَمتُ أُذنى عن كل صوت، وأغمضت عينى عن كل رسم، ما عاد لى سوى الحلم، اتركينى احلم كما البحار العجوز؛ نسي خسارة الأمس وراح يفكر في ربح الغد.
إلى لقاء في فصل جديد